تهجير غزة- مخطط ترامب، ومصالح فلسطين والأردن ومصر المشتركة

بكل جدية، بدا الرئيس الأميركي دونالد ترامب مصممًا على المضي قدمًا في مشروعه الذي يهدف إلى نقل الفلسطينيين قسرًا من قطاع غزة إلى الأردن ومصر. وتجلت ثقته المفرطة وإيمانه الراسخ بقدرته على إخضاع هاتين الدولتين، الجارتين لفلسطين، لرغباته. كيف لهما أن ترفضا طلبه، وهما اللتان تعتمدان على المساعدات الخارجية الأميركية منذ زمن طويل؟ بالنسبة له، حان الوقت لـ"رد الجميل" والامتثال لأوامر رئيس القوة العظمى، وتحقيق أهداف مشروعه المستوحى من الرؤى الصهيونية المتطرفة.
وقد أثار هذا الاندفاع غير المعهود لدى الرئيس، المنتشي بنصر انتخابي ساحق، حيرة المحللين. ذهب البعض إلى القول بأنه يدرك تمامًا ما يقول، وأنه يكمل ما بدأته إدارة بايدن الديمقراطية بتردد وحذر، وما باشره هو نفسه في "صفقة القرن" قبل سنوات. وباعتباره ينتمي إلى تيار يميني شعبوي متطرف، يرى ترامب أنه لا يوجد ما يمنعه من الترويج لخطة "الحسم والضم والتهجير"، التي كانت مجرد فكرة هامشية في إسرائيل قبل أن تصبح إستراتيجية أساسية للدولة العبرية.
ويرى فريق آخر أن ترامب يعتمد تكتيكًا مختلفًا، يهدف إلى بث الخوف والذعر في قلوب خصومه وحلفائه على حد سواء، وذلك لزيادة قيمة ما يملكه، على أمل الحصول على مكاسب أخرى في مكان آخر، ولكن بتكلفة أقل. هنا، يتردد أن مشروع التهجير سيتم التخلي عنه بمجرد أن تبدأ الخطوات الأولى نحو التطبيع الإسرائيلي – العربي، وهو الهدف الأسمى لترامب. وبدلاً من أن تكون "الدولة الفلسطينية" هي ثمن التطبيع، يصبح التخلي عن مشروع التهجير المفاجئ هو المقابل المطلوب.
بينما يرى فريق ثالث أننا أمام مجرد اختبار للنوايا، فإذا أثار الرعب في قلوب الفلسطينيين والأردنيين والمصريين، فسيكون ذلك كافيًا. وإلا، سيبقى الباب مفتوحًا أمام عروض وصفقات لاحقة، بشروط أكثر تواضعًا. هنا، تتجه الأنظار نحو الضفة الغربية، التي يسعى الإسرائيليون إلى استغلالها للحصول على تنازلات من ترامب مقابل قبولهم بوقف دائم لإطلاق النار في غزة، أو قبول مشروط ببقاء الغزيين على أرضهم.
بغض النظر عما يدور في ذهن ترامب وما يخطط له، فإن إفشال هذا المشروع يمثل مصلحة مشتركة لكل من فلسطين والأردن ومصر، بل والعالم العربي بأكمله. والفشل في مواجهته ليس خيارًا مقبولًا على الإطلاق، خاصة وأن هناك أوراق قوة يمكن استخدامها بفعالية، أو بالأحرى، إذا توفرت الإرادة السياسية لاستخدامها، ستكون كفيلة بدفنه في مهده، على الرغم من القوة والنفوذ التي يتمتع بها البيت الأبيض. وفي هذا السياق، يمكننا التفكير بخمسة أوراق على الأقل:
أولى هذه الأوراق، وأكثرها أهمية، هو رفض الفلسطينيين أنفسهم لهذا المشروع، قولًا وفعلًا. وما حدث خلال "مسيرات العودة" إلى غزة والشمال، بعد الانسحاب الإسرائيلي من جزء من ممر نتساريم، كان بمثابة استفتاء عفوي على رفض التهجير. لم يتوجه نصف مليون فلسطيني إلى معبر رفح هربًا إلى سيناء، بل احتشدوا على ممر نتساريم للعودة إلى بيوتهم المدمرة، سيرًا على الأقدام، حتى لو استغرق الأمر ساعات وأيامًا على "طريق الآلام"، بسبب المماطلة الإسرائيلية المتعمدة للانتقام.
لقد عبرت جميع القوى الفلسطينية عن رفضها للمشروع، ولم يقتصر الأمر على الفصائل، بل امتد إلى مختلف فعاليات الشعب الفلسطيني في كل مكان. لكن نقطة الضعف في الموقف الفلسطيني الموحد تكمن في إصرار السلطة الفلسطينية على رفض المصالحة وتوحيد الصفوف، واستمرارها في رهانها السياسي الخاسر، وسعيها الدائم لتقديم "أوراق الاعتماد" لإسرائيل ومن يدعمها، على أمل الحصول على "مكانة تحت الشمس" في الضفة الغربية أولًا، وفي غزة إذا أمكن ذلك.
ثانيًا، هناك الموقفان الأردني والمصري، حيث تشعر عمان والقاهرة بتهديد لأمنهما واستقرارهما، وفي الحالة الأردنية، لهويتها ووجودها، إذا ما تم تنفيذ هذا المشروع. هنا، لا نتحدث عن مجرد موقف متضامن مع "الأشقاء الفلسطينيين"، بل عن سياسات دفاعية ووقائية لحماية الحكم والحكومات، والحفاظ على الأمن والاستقرار، والدفاع عن الهوية والوجود.
لذا، يُنتظر أن تتخذ الدولتان موقفًا حازمًا وواضحًا، وأن تضعا خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها، فالثمن المطلوب منهما تقديمه لا يقدر بالمال أو بالمساعدات الأميركية. بل يمكن القول إن الثمن المترتب على إغضاب واشنطن برفض التهجير سيكون أقل بكثير من الثمن المطلوب لنيل رضاها.
ثالثًا، هناك مواقف الدول الأعضاء في "نادي الاعتدال العربي"، التي بدأت تتبلور في اجتماع القاهرة الأخير. فالفلسطينيون هذه المرة، بقضيتهم وحقوقهم ومقاومتهم، ليسوا وحدهم من يتعرض للتهديد، بل دولتان أساسيتان ومؤسستان في هذا النادي. وإذا تُركت هاتان الدولتان عرضة للضغوط دون شبكة أمان عربية، فإن ذلك سيعرض جميع الدول الأعضاء للخطر والتهديد، دون وجود ضمانة بأن الابتزاز لن يطال الجميع إذا نجح في تحقيق أهدافه في الحلقة الأضيق المحيطة بفلسطين.
في هذا السياق، يكفي أن تجتمع الدول الموقعة على معاهدات السلام والاتفاقات الإبراهيمية، لكي تبعث برسالة قوية: "جميع هذه الاتفاقات والمعاهدات في كفة، والتهجير في كفة أخرى"، حتى يتم إسقاط هذا المشروع. بل وحتى يخرج العرب والفلسطينيون من هذه الأزمة، وهم أكثر قوة وتماسكًا.
والتلويح بهذه الورقة هو الرد الأمثل على ترامب، الذي يطمح لنيل "جائزة نوبل للسلام"، بينما يقترح مشروعًا لغزة قد يحوله إلى متهم في "لاهاي" بتهمة الدعوة لارتكاب جريمة حرب، فالتهجير القسري بكل المقاييس هو جريمة حرب مكتملة الأركان.
رابعًا، يجب العمل على "الداخل الأميركي"، فلكل دولة من دول الاعتدال العربي شبكة علاقات مع شخصيات ومؤسسات ومراكز صنع قرار في الولايات المتحدة، وهي تشكل بمجموعها قوة ضغط هائلة إذا تم توحيد الجهود وتنسيق التحركات.
فليست كل المؤسسات الأميركية تتبنى سياسات ترامب ومواقفه، فالبعض يرى فيه "فيلًا هائجًا يعبث في متجر الخزف". وهذا هو الوقت المناسب لتعبئة أوسع جبهة أميركية داخلية ضد هذا الانفلات السياسي الذي يقوض قيم ومبادئ القانون الدولي. وعلى هذه الدول أن تنطلق من منطلق أن لواشنطن مصالح في هذه المنطقة، ومع هذه الدول، لا تقل أهمية عن مصالح دولنا مع القوة العظمى في العالم.
خامسًا، الموقفان الأوروبي والأممي، اللذان عبرا عن صدمتهما من المشروع، وأعلنا رفضهما واستنكارهما بصوت عالٍ، وهما موقفان يعكسان القلق العالمي من صعود ترامب. فالأمم المتحدة لن تنسى له سعيه لتهميشها وتجفيف مواردها، وأوروبا لن تنسى له سعيه لتقويضها وضرب العلاقات بين ضفتي الأطلسي. هنا، يمكن البحث عن شبكة أمان أوروبية وأممية، محمية بالشرعية الدولية، وقرارات الإجماع الدولي، ومرجعيات عملية السلام، لإظهار الوجه القبيح لهذا المشروع.
إن فرص تشكيل جبهة عالمية، وليست عربية أو إقليمية فقط، لمواجهة هذا المشروع تبدو واعدة، إذا تم التحرك بسرعة لإنقاذ حقوق الفلسطينيين أولاً، وحماية أمن الدول العربية المستهدفة بالتهجير ثانيًا. فهذا المشروع ليس قدرًا محتومًا، وترامب ليس كلي القدرة، مهما استعرض قوته. والولايات المتحدة، رغم قوتها، هي مجرد لاعب واحد من بين لاعبين كبار آخرين. والانطلاق بثقة في القدرة على إلحاق الهزيمة بهذا المشروع هو شرط أساسي لتحقيقها، وهذه الهزيمة ممكنة وليست مستحيلة.